قيادة محمد من منظور غربي

شغلتنا منذ فترة فكرة البحث في أدبيات القيادة عن ما كتبه الباحثون والدارسون الغربيون عن قيادة محمد وتساءلنا :هل توجد كتابات غربية تعالج موضوع القيادة عند محمد؟ وإذا وجدت فمن هم أولئك الغربيون  الذين كتبوا في هذا الموضوع؟

 وبعد إجراء بحث عبر الانترنيت وفي بعض المكتبات المتوفرة في المغرب لاحظنا أن معظم ما كتب عن قيادة محمد هو من تأليف كتاب وباحثين مسلمين خاصة في آسيا والولايات الأمريكية المتحدة. أما ما كتبه الغربيون غير المسلمين في الموضوع فهو قليل إن لم نقل منعدم .ويؤيد هذه الملاحظة اندهاش جون أدير(مؤلف :قيادة محمد 2010) من عدم تطرق الكتاب الغربيين لمهارات القيادة عند محمد”صلع” رغم تناول الكثيرين منهم لسيرة محمد وحياته (في مقابلة له مع قناة MBC ). كما نجد الدكتور محمد عبد الباري الكاتب العام للمجلس الإسلامي البريطاني يؤيد نفس الملاحظة حيث يقول في تعليقه على كتاب جون أدير “يعتبر كتاب قيادة محمد لصاحبه جون أدير محاولة فريدة في إلقاء الضوء على بعض الجوانب من قيادة محمد التي غيرت العالم “

يتضح من الملاحظة أعلاه أن كتاب جون أدير يبقي الوحيد الذي عالج  بشكل مباشر موضوع القيادة عند محمد. إلا أن ذلك لا يعني أن الكتاب الغربيين لم يتعرضوا أصلا للموضوع بل إننا نجد من بينهم  من عالج الموضوع  ضمن مؤلفاتهم التي تتحدث عن الأبطال الذين صنعوا التاريخ أو كبار الشخصيات المؤثرة في تاريخ البشرية. وهكذا نجد طوماس كارليل يخص محمد بمحاضرته الثانية ضمن كتابه “الأبطال وعبادة البطل” الذي ظهر في القرن التاسع عشر. أما مايكل هارت فقد أعطي لمحمد المرتبة الأولي من بين  الشخصيات الأكثر تأثيرا في التاريخ وذلك في كتابه الذي صدر سنة (1992) تحت عنوان The 100 A RANKINH OF THE MOST INFLUENTIAL PERSONS IN HISTORY وانطلاقا من هذه الوضعية التي تتسم بنقص مهول في الكتابات الغربية عن صفات ومهارات محمد (صلع) القيادية ارتأينا أن نكتفي بالرجوع إلى المراجع الثلاثة المتوفرة لدينا ،وهي  كتاب “الأبطال وعبادة البطل” للمؤرخ كارليل وكتاب “أعظم مائة شخصية مؤثرة في التاريخ” للعالم هارت وأخيرا كتاب جون أدير “قيادة محمد”، وذلك بغية الاطلاع على ما كتبه  هؤلاء الكتاب في موضوع  قيادة محمد وتحديد منظروهم إليها.

 وقبل الخوض في تحليل الموضوع ودراسته بدا لنا من المفيد ان نقدم للقارئ نظرة مختصرة عن هؤلاء الكتاب الذين تناولوا بالدراسة والتحليل قيادة محمد بمقاربات مختلفة.

وهكذا نجد طوماس كارليل من الأوائل الذين اعتبروا محمدا من أهم القادة الذين عرفهم تاريخ الإنسانية ونذكر بأن كارليل فيلسوف ومؤرخ وأديب  اسكتلندي ومن ابرز الشخصيات في القرن التاسع عشر. وقد آمن  كارليل بأهمية ودور البطولات والشخصيات القيادية في صناعة التاريخ وإصلاح المجتمع لدرجة انه كان يعتقد بأن تاريخ العالم ما هو إلا سيرة ذاتية للرجال العظام ، وقد شرح  ذلك بتفصيل في كتابه المشهور : ON HEROES AND HERO-WORSHIP كما أن كارليل هو صاحب نظرية الرجل العظيم في القيادة.

أما مايكل هارت فهو عالم أمريكي فيزيائي، فلكي، ومؤرخ معاصر اشتعل في مركز أبحاث الفضاء (NASA) في ماريلاند، وفي المركز القومي لأبحاث طبقات الجو في كولورادو، وفي مرصد هيل في كاليفورنيا. وهو الآن عضو في الجمعية الأمريكية الفلكية وفروعها في علوم الكواكب.ومن أشهر مؤلفاته كتاب The 100 A RANKINH OF THE MOST INFLUENTIAL PERSONS IN HISTORY الذي صدر عام  1992  وتحدث فيه عن ابرز الشخصيات التي كان لها أكبر تأثير في تاريخ البشرية. أي الأشخاص الذين أثروا في مصير ملايين البشر وتحكموا في قيام الحضارات وانهيارها ، وغيروا مجري التاريخ. وقد حصر هذه الشخصيات الأكثر تأثيرا في مائة شخصية ووضع النبي محمد (صلع) على رأس القائمة.

في حين أن جون أدير هو كاتب انجليزي معاصر ومن بين أهم المختصين العالمين في دراسة  القيادة وتنمية مهاراتها. وهو رئيس قسم دراسات القيادة في الأمم المتحدة. ويعد البروفسور جون أدير  مستشارا  كبيرا وخبيرا عالميا في شؤون القيادة، ومؤلفا لأكثر من 50 كتابا في القيادة .وقد توج أعماله بإصدار كتاب  Leadership of Muhammad (2010)  الذي خصصه لدراسة  مهارات القيادة عند النبي محمد “صلع” وذلك وفق المقاييس العالمية للقيادة.

وبعد دراستنا لهذه الكتب الثلاثة لاحظنا انه رغم اختلاف مؤلفيها في المكان والزمان فهي جميعها تؤكد على الدور العظيم الذي لعبه محمد في صناعة التاريخ سواء على مستوى الجزيرة العربية أو على مستوى تاريخ البشرية. فكل واحد من هؤلاء الثلاثة تناول جوانب خاصة من القيادة عند محمد. فبينما نجد كارليل يؤكد على الصفات القيادية التي يتميز بها محمد كبطل ودوره في تغييروجه الجزيرة العربية، فإن هارت ركز بالأساس في كتابه على قدرة محمد على التأثير وإبراز دوره في إحداث التغيير في تاريخ البشرية.  أما جون أدير – الذي لم يظهر كتابه إلا مؤخرا – فقد عالج  بشكل مباشر وغير مباشر مجموعة من المواضيع المتعلقة بالقيادة عند محمد، فبالإضافة إلى عرضه للمجموعة من صفات محمد القيادية، ودوره في إحداث التغيير في الجزيرة العربية. فقد تعرض لمجموعة أخري من المواضيع القيادية عنده وخاصة منها تلك المتعلقة بالمهام القيادية التي مارسها الرسول (صلع)، وأسلوبه في القيادة والدور الهام الذي قام به في توحيد المسلمين وتضامنهم من أجل الدفاع عن رسالته.

وانطلاقا من هذه الملاحظات العامة ارتأينا أن نركز في مقالنا هذا على مجموعة من المحاور الأساسية التي أوجزناها في ثلاثة محاور كبري وهي:

  • الصفات القيادية لمحمد (صلع)
  • أسلوب محمد (صلع) في القيادة
  • دور محمد (صلع) كقائد للتغيير

أولا : الصفات القيادية لمحمد ( صلع)

لا بد من التذكير بأننا سنتعرض في هذا المحور للسمات القيادية لمحمد ( صلع) كما ورد ذكرها عند كل من كارليل وجون أدير، لا كما وردت في أدبيات القيادة الإسلامية التي كتبها علماء مسلمون.

وهكذا سنري أولا ماذا قال كارليل في القرن التاسع عشر عن السمات القيادية لمحمد ( صلع)  ثم ماذا قال عنها جون أدير في القرن الواحد والعشرين.

I – كارليل وصفات محمد ( صلع) القيادية

قبل الحديث عن الصفات الشخصية لمحمد ( صلع) لا بد من الرجوع إلى الحديث عن نظرية السمات في القيادة وعن أهمية الصفات الشخصية بالنسبة للقادة.  ونذكر في هذا السياق بأن نظرية السمات تعتبر من أهم المقاربات لفهم القيادة ، وأن من أولي نظريات هذه المقاربة ما يعرف ب”نظرية الرجل العظيم” التي وضعها المؤرخ الاسكتلندي طوماس كارليل كما جاءت في كتابه “الأبطال وعبادة البطل” وحسب هذه النظرية فإن التاريخ يفسر بتأثير الرجال العظام أو الأبطال. فالأشخاص الذين لهم تأثير قوي – نظرا لما يتمتعون به من كارزما وذكاء وحكمة، أو مهارة سياسية – هم الذين يستعملون سلطتهم  لتشكيل التاريخ. بل إن كارليل يؤكد على أن ” تاريخ العالم ما هو إلا سيرة ذاتية للرجال العظام” وأن القائد الفعال هو ذلك الذي وهب إلهاما إلهيا وصفات متميزة. وانطلاقا من هذه المسلمة نجد كارليل في محاضرته الثانية ،التي خصصها للدفاع عن محمد ( صلع) وإثبات صحة رسالته ودوره البطولي في صناعة التاريخ العربي بصفة خاصة والعالمي بصفة عامة، يذكر مجموعة من الصفات  البطولية التي توفرت في محمد ( صلع) وجعلته قائدا عظيما.

ففي بداية المحاضرة نجد كارليل يؤكد على  صدق محمد ( صلع) وإخلاصه ، ويري أن الإخلاص العميق والقوي والأصيل- هو من صفات كل الرجال الأبطال. ويعتقد بأن الرجل العظيم لا يفتخر بإخلاصه، بل هو لا يسأل نفسه هل هو مخلص، ذلك أن إخلاصه غير متوقف على إرادته بل إنه يولد على تلك الصورة وذلك هو السبب الأول لعظمته.  

كما نجد كارليل يصف محمدا ( صلع) بأنه “رجل أصلي” أي أنه جاء برسالة لم يسبقه إليها أحد ولم يأخذ كلامه من رجل آخر.كما يذكر بصفة “الأمين” التي سماه بها رفاقه منذ سنه المبكرة وهي تفيد بأنه كان رجلا يتسم بالصدق والوفاء، حيث كان الصدق ظاهرا في أفعاله وأقواله وأفكاره فما من كلمة تخرج من فيه إلا كان لها معنى.

كمأ يذكر كارليل بأن محمدا ( صلع) كان صموتا. فهو يسكت حيث لا موجب للكلام. وإذا تكلم يكون كلامه في الصميم، ويتصف بالحكمة والصدق، وفي نفس الوقت يتمتع بالقدرة على التبليغ فما يتناول أمرا إلا أبانه ووضحه. ويسترسل كارليل في ذكر مجموعة من الصفات التي يرى أن محمدا صلع  قد تميز بها طول حياته ومنها على الخصوص: الثبات على المبدأ ، الإحساس بالأخوة (الود)، الأصالة (أصيل)، الجدية القرب إلى القلوب ، المزاح، حسن الابتسامة ، براءة الوجه ، نعومة البشرة ،  تلألؤ  العينين، العفوية صدق المعني، الوفاء ، الحذق، براءة الطبع من الرياء والتصنع، الاعتماد على النفس، عدم ادعاء ما ليس فيه، الفصاحة، معرفة قدر النفس، وعدم التباهي أو التفاخر بالذات.

ونلاحظ أن السمات الشخصية التي يتميز بها محمد ( صلع) كما ورد ت عند كارليل تفوق ثلاثين سمة، وهي تجمع ما بين السمات الخلقية، والسمات والمهارات الاجتماعية والسمات الجسدية. وذلك كما صنفها فيما بعد دارسوا سمات القيادة في الجامعات الغربية وخاصة في الولايات الأمريكية المتحدة.

II – جون أدير وصفات محمد ( صلع) القيادية

ركز جون أدير في كتابه “قيادة محمد” على دراسة  مهارات القيادة عند النبي محمد ( صلع)  وذلك وفق المقاييس العالمية للقيادة.  وقد أعطي أهمية خاصة للحديث عن السمات القيادية لمحمد ( صلع) حيث تعرض لها في خمسة فصول من مجموع الثمانية التي يتكون منها كتابه. وقد قمنا بجرد لتلك السمات ووجدنا أنها تقترب من عشرين صفة ومن أبرزها : التواضع، والقدرة على صياغة الرؤية، الإلهام، خدمة الآخرين، القدوة الشجاعة، الطيبوبة، اللطف، الإنسانية، الرحمة، الذكاء، حسن الانتباه، الكرم، الشجاعة، الحكمة، الشرف الأمانة ، الاستقامة والصدق .ونظرا لأهمية صفة التواضع وصفة الأمانة فقد خص أدير كل صفة بفصل خاص من كتابه.

وبرجوعنا إلى مقدمة الكتاب نجد جون أدير يصف محمد ( صلع) بالقائد النموذجي الذي يحظى بالتعظيم ويتصف في نفس الوقت بالتواضع. كما نجده يصف محمد ( صلع) بالقدرة على صياغة الرؤية والقدرة على إلهام الآخرين وتكريس حياته لخدمة الناس. و يعترف المؤلف بتوافق نموذج قيادة محمد مع ما  يعرفه الغربيون اليوم عن طبيعة القيادة وممارستها “ذالك النموذج الذي تجلت ملامحه في حياة محمد – يتوافق تماما مع ما نعرفه اليوم عن طبيعة القيادة وممارستها ” .

 وفي الفصل الأول من الكتاب أعطى المؤلف نظرة مختصرة ومركزة عن نشأة محمد ( صلع)  وسط قبائل البدو وتأثير تلك الحياة في تكوين شخصيته وثقافته وقيمه واكتسابه لمجموعة من الصفات التي أهلته للعب دور القيادة بين قومه، وفي مقدمة تلك الصفات تأتي  صفة الشجاعة التي اتسم بها محمد صلع في عدد من المواقف مستشهدا على ذلك بموقعة حنين التي أظهر فيها شجاعة مكنت أصحابه من مواجهة الخطر بدون خوف والعمل  بشجاعة تحت أي ضغط والصمود في أوقات الشدة.

ويؤكد المؤلف على أن محمد ( صلع) يشترك مع باقي القادة عموما، في مجموعة من الصفات الإنسانية مثل الطيبوبة واللطف والإنسانية، والرحمة  والتواضع. ويستدل على ذلك  بعدد من السلوكات التي كان يبديها محمد صلع اتجاه الآخرين.

ويري المؤلف أن محمدا ( صلع) يجسد في شخصه ما يعرف عند العرب بالمروءة  التي هي من شيم الرجل وهي تشتمل على  مجموعة من الصفات  منها الشجاعة والكرم والحكمة العملية والشرف.

ويوضح أن المفصود بالحكمة العملية هو فن معرفة الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله في الوقت المناسب وبالشكل الصحيح ويشتمل ذلك على القدرة على النظر إلى المستقبل، وتوقع الكيفية التي ستتطور بها الأمور، وتوقع كيف ستكون نتائج مسار معين لعمل ما.  كما تعني الحكمة العملية القدرة على التوصل إلى استنتاجات سليمة، وبناء قرارات صائبة على تلك الاستنتاجات، والتصرف وفق تلك القرارات بحزم وإصرار. ويضيف موضحا بأن الحكمة تتكون من ثلاثة عناصر أساسية تتلخص في الذكاء والخبرة والطيبوبة .

وكما سبقت الإشارة من قبل فإن جون أدير أولي أهمية خاصة للحديث عن صفة الأمين التي عرف بها محمد ( صلع) أثناء قيامه بقيادة القوافل التجارية، حيث كان حريصا على رد الأمانات إلى أهلها. ويرجح المؤلف أن تكون أمانة محمد ( صلع) الثابتة والدقيقة هي التي جعلته يكتسب سمعة الأمين.

كما اشتهر محمد ( صلع) بالاستقامة ويعني أصل هذه الكلمة في اللغة اللاتينية الكمال. وإذا كانت الأمانة تعني رفض الكذب والسرقة  أو الغش بأي شكل من الأشكال فإن جون أدير يري أن الاستقامة أوسع من الأمانةّ. فالاستقامة  تعني أن الشخص أهل للثقة وغير قابل للفساد لدرجة يصبح فيها غير قادر على خيانة الثقة أو المسؤولية أو العهد. 

ويؤكد جون أدير على أن الاستقامة  تتجلي في كل نواحي الشخصية فهي توجد في الأمور الكبيرة والصغيرة على سواء ، وأن الإذعان  للحقيقة يعرف في الأشياء الصغيرة كما يعرف في الأشياء الأكثر أهمية. ويذكرنا المؤلف في هذا السياق كيف أن خديجة كانت تذكر دائما بصدق محمد ( صلع) وثقة الناس فيه. ويؤكد أدير على تلازم صفتي الصدق والثقة، فإذا كان الشخص يقول الحقيقة فإنه يكسب ثقة الناس .أما إذا كان يكذب فإن ثقة الناس فيه تتلاشي أو تضمحل نهائيا. ثم نجد المؤلف يتساءل لماذا يعتبر الصدق والإخلاص والمبادئ السامية مهمة بالنسبة للقائد؟ وفي جوابه على هذا السؤال يري أن السبب بسيط ؛ ذلك أن القائد الصادق الذي يقول دائما الحقيقة يخلق الثقة. وهذه الأخيرة تعتبر عنصرا أساسيا في  كل العلاقات الإنسانية سواء منها المهنية أو الشخصية. و من هنا يمكن إدراك تأكيد محمد ( صلع) على الاستقامة في الأشخاص الذين يتم اختيارهم كقادة الأمة في المجتمع الإسلامي.  ويصف أدير الذين يتقلدون أدوار قيادية وتعوزهم الاستقامة ب ” الرعاة العميان ” وهو لا يعتبرهم قادة سيئين  بل يري أنهم ليسوا قادة على الإطلاق بل هم مجرد مضللين.

ومن الصفات القيادية لمحمد ( صلع) التي أولاها المؤلف أهمية خاصة (الفصل السابع ) تبرز صفة التواضع. فكيف يتجلى التواضع في سلوكات محمد ( صلع) وما هو تأثيره على أسلوبه القيادي في نظر أدير؟

تمثلت بساطة محمد ( صلع)حسب جون أدير ، في تأكيده المستمر على أنه مجرد إنسان لا أكثر ولا أقل، وأنه ليس إلها. ويري أن التواضع وخفض الجناح لهما قيمة مهمة بالنسبة للأشخاص الذين يتقلدون المناصب القيادية العليا. و يضيف موضحا بأن السلطة تفسد وأن أكبر فساد بالنسبة للقائد هو أن يعتقد –ويشجع الآخرين أن يعتقدوا – أنه أكثر من إنسان وأنه رجل خارق ونصف إله، أو إله في بعض الحالات المتطرفة. فالتواضع في نظر أدير هو لقاح القادة ضد الغطرسة وترياق ضد داء العجرفة والمغالاة في استعمال السلطة. ويضيف أدير قائلا إن المتغطرسين يعطون لأنفسهم  سلطة  أكثر من تلك التي يستحقوها أما المتواضعون فيعرفون حدودهم : يعرفون ما الذي يعرفونه ، ويعرفون ما الذي لا يعرفونه ، ويعرفون ما الذي يمكنهم أن يفعلوه ، أو يكونوا عليه ، كما إنهم يعرفون ما الذي لا يمكنهم أن يفعلوا أو يكونوا عليه. وبناء عليه فالمتواضعون لا يرفضون سماع النصيحة ولا يرفضون طلب المساعدة أو قبولها. ويذكر في هذا الصدد أن محمد ( صلع) كان مستعدا لسماع النصيحة بل إنه كان يغير قراره على ضوء ما قد يسمعه فقد كان محمد شخصا ثابتا على الرأي وقائدا في غاية المرونة. فقيادته كانت تتميز بتجنب استعمال القوة إلا بمقدار ما هو ضروري للحصول على النتيجة كما انه كان يعطي الاعتبار للآخرين ويعاملهم بلطف ورقة.

ونلاحظ من خلال عرض أهم السمات  القيادية لمحمد ( صلع) كما وردت عند كل من طوماس كارليل وجون ادير أن محمد ( صلع) يشترك مع غيره من القادة في مجموعة من الصفات التي حددها الغربيون الذين قاموا بأبحاث ودراسات عن سمات القيادة وذلك ابتداء من  فرانسيس جالتون (1869)  ومرورا بمراجعات ستودكيل (في 1948 ثم في 1970) ووصولا إلى جدول يوكل ( 1981) ومراجعة كيلباتريك (1991) وذلك دون إغفال دراسة وارن بنيس و نظرية بورنز وغيرهم من المنظرين للقيادة.

وباختصار يمكن القول إن مدخل السمات- رغم ما وجه إليه من انتقادات – مازال يحظى بالعناية والاهتمام حتى الوقت الحالي حيث تظهر مراجعة بعض أدبيات القيادة المعاصرة أن عددا من الدارسين ما زالوا يؤكدون على دور الرجال العظام في عدد من المجالات المختلفة سواء منها الصناعية او السياسية أو العسكرية أو غيرها .إلا أن التأكيد على أهمية السمات بالنسبة للقيادة لا تعني أن السمات وحدها كافية لضمان قيادة فعالة بل إن السمات ما هي إلا تعبير عن دراسة لشخصية القائد وإبراز لأهم ما يميزه عن الآخرين وجعله قادرا على التأثير عليهم في ظروف معينة ومواقف محددة. ومن ثم لا بد من النظر إلى سلوكات القائد ومدى قدرته على التأثير في الآخرين  بمعنى تحديد أسلوبه في القيادة.   

ثانيا : أسلوب محمد ( صلع) في القيادة

بعد عرضنا لأهم السمات القيادية لمحمد ( صلع) كما وردت عند كل من طوماس كارليل وجون أدير ننتقل في هذا المحور الثاني للحديث عن أسلوب القيادة الذي ميز سلوك محمد ( صلع)  وذلك من وجهة نظر الغربيين والممثلة بصفة خاصة في كتاب جون أدير.

ونذكر في هذا السياق أن الحديث عن أسلوب القيادة يأتي في إطار التحليل العلمي لسلوك القائد أو ما يعرف بالمقاربة السلوكية للقيادة التي تفترض أن سلوكات معينة تميز القادة عن غير القادة وذلك على خلاف مقاربة  السمات التي تركز على ماهية القائد وسماته.وقد أفرزت الدراسات السلوكية مجموعة من أساليب القيادة (دراسة جامعة إيوا، دراسة جامعة ولاية أوهايو، دراسة جامعة ميشغان، الشبكة الإدارية) ويلاحظ أن تلك الدراسات  تشترك كلها في اقتراح أكثر من أسلوب للقيادة، كما تشترك في التمييز بين أسلوب القيادة (سلوك القائد) وتأثير ذلك السلوك على أداء الأتباع وشعورهم بالرضا. وتقترح كل دراسة من الدراسات السلوكية أحد الأساليب كأحسن أسلوب للقيادة. فبينما تقترح دراسة جامعة ايوا الأسلوب الديمقراطي كأحسن أسلوب للقيادة، نجد دراسة جامعة ولاية أوهايو تري أن أحسن أسلوب للقيادة هو الأسلوب الذي يجمع بين الاهتمام المرتفع بكل من الهيكلة (العمل) والاعتبار (الاهتمام بالناس)، في حين أن جامعة ميشغان تري أن أحسن أسلوب للقيادة هو المتجه نحو العامل ، أما الشبكة الإدارية فتعتبر أسلوب الاهتمام المرتفع بكل من الناس والإنتاج هو أحسن أسلوب للقيادة (الغراري  2006).

ويلاحظ ان مختلف أساليب القيادة المقترحة تقوم على بعدين أساسين هما : بعد سلوك التوجيه أو التوجه نحو المهمة ، وبعد سلوك التشارك أو التوجه نحو العاملين أو الناس. فالقائد الذي يستعمل سلوك التوجيه في القيادة يهتم بإملاء واجبات الأتباع ويحدد مسؤولياتهم وأدوارهم ويكون همه منصبا على القيام بالمهة أما القائد الذي يستعمل سلوك التشارك فيحاول أن يساعد أتباعه على النمو الشخصي ويرفع مستوى دافعيتهم ويهتم بربط علاقات شخصية بينه وبين إتباعه عن طريق توفير الدعم الاجتماعي والعاطفي  لهم.  إلا أن الأبحاث اثبت فيما بعد أن القائد الفعال هو الذي يجمع في قيادته بين كل من التوجيه والتشارك وهو الذي يغير أسلوبه حسب المواقف التي يوجد فيها.

وبناء على هذه الأرضية النظرية، المركزة والمختصرة، لدراسة سلوك القائد نتساءل ما هو الأسلوب القيادي الذي كان يتميز به محمد ( صلع) من منظور غربي ؟ فهل كان أسلوبه توجيهيا أم كان تشاركيا. أم انه كان يجمع في قيادته بين الأسلوبين معا؟ وباستقراء كتاب جون أدير عن قيادة محمد ( صلع) استطعنا أن نخرج بمجموعة من المؤشرات عن كل من سلوك التوجيه وسلوك المشاركة في أسلوب القيادة الذي تميز به محمد (صلع).

يلاحظ من الجدول أعلاه أن أسلوب القيادة الذي اتبعه محمد ( صلع) مع أصحابه كان أسلوبا توفيقيا يجمع بين الاهتمام بالمهمة المطلوب منه تحقيقها وهي تبليغ الرسالة ، وبين الاهتمام بالصحابة الذين بواسطتهم يتم تحقيق المهمة. أو بتعبير آخر إن أسلوب محمد ( صلع) في القيادة كان يجمع بين التوجيه والتشارك. وهذا الأسلوب هو الذي ساعده على كسب حب كثير من الناس وانضمامهم إلى جانبه وتأييدهم لرسالته والعمل بجانبه على إدخال التغيير الذي كان يسعى إليه.

ثالثا : محمد ( صلع) قائد التغيير

لا شك أن التغيير يعتبر من أهم ادوار القائد بل  إن كثيرا من المنظرين للقيادة يرون أن القيادة هي التغيير فما هي أهم التغييرات التي أحدثها محمد ( صلع)؟  في الإجابة عن هذا السؤال رجعنا إلى كل من محاضرة كارليل ومقال الدكتور مايكل هارت ، و كتاب الدكتور جون أدير.وإذا كان كل من كارليل وجون أدير قد تحدثا عن التغيير الذي أحدثه محمد ( صلع) بشكل مقتضب فإن هارت قد خصص مقاله عن محمد ( صلع) للحديث عن التغيير الذي ادخله على الجزيرة العربية بصفة خاصة وعلى العالم بصفة عامة ومدى استمرار تأثير ذلك التغيير حتى يومنا هذا .

وأول ما يجب الانتباه إليه في عنوان كتاب هارت “المائة شخص الأكثر تأثيرا في التاريخ” هو كلمة تأثير. فلاشك أن هارت قد استعمل المصطلح لإيمانه بأهمية التأثير في عملية القيادة. فالبرجوع إلى مختلف تعاريف القيادة نلاحظ “أن معظم المنظرين الغربيين يجمعون على تعريف القيادة بأنها عملية التأثير في أنشطة فرد أو جماعة من أجل تحقيق هدف أو أهداف محددة. وهكذا نجد ستودجيل يعرف القيادة “بأنها عملية التأثير في أنشطة جماعة منظمة من أجل تحديد الهدف وتحقيقه” أما شارتل فيعتقد أن القائد “هو الذي يمارس أعمالا ذات تأثير إيجابي على الآخرين” أو “هو الذي يمارس تأثيرا أكثر أهمية من تأثير أي عضو آخر من أعضاء جماعة منظمة ” كما أن التأثير يعتبر أحد العناصر الأربعة الأساسية للقيادة. وهو ملازم لها بحيث لا يمكن أن توجد قيادة دون القدرة على التأثير في الآخرين. وفي هذا السياق نجد ماكسويل يقول”القيادة هي التأثير” أما كينيث بلانشارد فيقول “إن مفتاح النجاح اليوم هو التأثير وليست السلطة”.أما باص فيعرف القادة بأنهم أشخاص تؤثر أفعالهم على الآخرين أكثر مما تؤثر أفعال الآخرين عليهم (الغراري 2006).

وفي هذا الصدد ينبغي أن نذكر بأن التأثير يعتبر عنصرا أساسيا في تعريف السلطة، حيث نجد يوكل يعرف السلطة بأنها “قدرة  الشخص على التأثير في شخص أو أشخاص آخرين” كما يؤكد عدد من الباحثين على أنه لا يمكن الحديث عن التأثير دون الحديث عن السلطة ؛  ذلك أن السلطة تعتبر شرطا مسبقا للتأثير. فمفهومي التأثير والسلطة متداخلان ويصعب إغفال أحدهما عند الحديث عن الآخر.

وهكذا يتبن لنا أن التأثير عامل مشترك بين كل من القيادة والسلطة.حيث نجد بول هيرسي ينطلق في تعريفه للسلطة من مقارنتها بالقيادة ويصل إلى خلاصة مفادها؛ انه إذا كانت القيادة هي عملية تأثير فإن السلطة هي القدرة على التأثير.

ويعرف التأثير في أدبيات القيادة بأنه التغيير في مواقف وقيم ومعتقدات أو سلوك الشخص المستهدف، كما يعرف بأنه ضمان قبول الآخرين العمل مع شخص من أجل تحقيق هدف. أما التغيير فيعرف بأنه نبذ القواعد والإجراءات القديمة ووضع أخري جديدة ، أو هو الانتقال من وضع قديم إلى وضع جديد. وهذا هو ما حدث فعلا في الجزيرة العربية بفضل الرسالة التي جاء بها محمد ( صلع) وبفضل جهاده في نشرها والدفاع عنها رغم الصعوبات والعراقيل التي صادفها في طريقه.  

 بناء على ما سبق يمكن الجزم بأن مصطلح التأثير لم يوضع اعتباطيا في عنوان الكتاب بل إن هارت تعمد استعماله إيمانا منه بأهميته في فهم القيادة وفهم السلطة التي كان يتمتع بها أولئك الرجال المائة الذين اعتبرهم الأكثر قدرة على إحداث التغيير الجدري في حياة الناس.

وفي هذا السياق لابد أن نؤكد على ضرورة الاحتفاظ في ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية على العنوان كاملا كما جاء في النسخة الإنجليزية الأصلية والحرص على ذكر كلمة التأثير حتى لا نسقط أهم مفهوم يدور حوله مضمون الكتاب وهو مفهوم التأثير وقدرة الأشخاص المائة على التأثير في مجريات الأحداث وتغيير الأوضاع كل في زمانه ومكانه.

بعد هذه الملاحظة التي نعتبرها مهمة نعود إلى عرض أهم مظاهر التغيير التي أحدثها محمد ( صلع) كما وردت في المراجع الثلاث التي اعتمدنا عليها في تحرير هذا المقال.

فبالرجوع إلى محاضرة كارليل نجده يشيد، في المقدمة ،بالتغيير الذي أحدثه محمد ( صلع) قائلا : “لقد حدث تغيير عظيم ؛.ياله من تغيير ومن تقدم ذلك الذي حدث في وضع العالم وفي تفكير الناس !”

اما مايكل هارت  ففي بداية مقاله عن محمد نجده يقر بأن محمدا ( صلع) قد أسس ونشر أحد أعظم الأديان في العالم  وأصبح أحد أعظم القادة السياسيين الأكثر تأثيرا فبعد مرور ثلاثة عشرة قرنا على وفاته مازال تأثيره قويا وعارما.

 ومن خلال قراءة متأنية لهذين المرجعين أمكننا تحديد بعض أهم التغيرات  التي أدخلها محمد ( صلع) على الأوضاع التي كانت قائمة في شبه الجزيرة العربية أولا ثم خارجها ثانية.ونلخصها في أربع تغييرات مهمة وهي: نشر الدعوة، وتوحيد العرب، وتكوين إمبراطورية إسلامية كبيرة، ونشر الدين الإسلامي في أرجاء العالم المختلفة.

أولا:  نشر الدعوة

سار محمد في نشر الدين الجديد والدعوة على مراحل : 

  1. ففي البداية اقتصر على تبليغ رسالة إلي مجموعة صغيرة من أقرب الناس إليه بحيث لم تكن هذه المجموعة تزيد عن ثلاثة أشخاص وهم زوجته خديجة ، ومولاه زيد بن الحارثة ، وابن عمه علي بن أبي طالب. وظلت هذه المجموعة صغيرة في البداية بحيث لم تزد عن ثلاثة عشر عضوا خلال الأعوام الثلاثة الأولي. 
  2. وبعد ثلاث سنوات شرع في الدعوة العلنية إلى الإسلام(613) في مكة فتعرض للتهديد من طرف قبائل قريش. لكن رغم ذلك فقد استطاع كسب عدد من المؤدين لرسالته وان ظل عددهم قليلا.
  3. الهجرة من إلى المدينة (622) حيث وجد الترحيب والتأييد من أهلها وكثر أتباعه
  4. الرجوع إلى مكة بعد فتحها (630 ). وقد تزامن ذلك مع تسارع عدد من القبائل العربية إلى اعتناق الدين الجديد.
  5. عندما توفي محمد ( صلع) سنة 632 كان هو الحاكم الفعلي لكل شبه الجزيرة العربية.

 ثانيا : توحيد العرب

لقد عمل محمد ( صلع) أكثر من أي قائد آخر على تحقيق وحدة المؤمنين.ومكن المجتمع الإسلامي من العيش والعمل في انسجام من اجل تحقيق المهام الموكولة إليهم كما وحد المهاجرين والأنصار تحت اسم الصحابة (Adair, p.107).

كما أن محمد ( صلع) وحد- ولأول مرة في التاريخ- الجيوش العربية تحت إمرته وقد استطاعت هذه الجيوش أن تقوم بسلسلة من الفتوحات التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية وذلك بفضل حماسهم وإيمانهم بإله واحد.وسرعان ما فتحوا منطقة ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) وسوريا وفلسطين.كما استطاعوا أن ينزعوا مصر من الإمبراطورية البيزنطية ، وأن يتغلبوا على الجيوش الفارسية في عدد من المعارك.

ثالثا: تكوين إمبراطورية إسلامية كبيرة

 تابع خلفاء محمد (صلع) الفتوحات الإسلامية واستطاعوا أن يحرزوا انتصارات ضخمة كما استطاعت الجيوش العربية في القرن الثامن ميلادي الوصول إلى شمال إفريقيا ومنها إلى المحيط الأطلسي، وعبر مضيق جبل طارق وصلوا إلى اسبانيا وتغلبوا على مملكة القوط الغربيين. وبذلك تمكن محمد ( صلع) من تكوين سلسلة من الأمم العربية يوحد بينها الدين الإسلامي ، واللغة العربية، والتاريخ والثقافة المشتركة.   

رابعا : نشر الدين الإسلامي في أرجاء العالم المختلفة

ما زال تأثير محمد(صلع) واضحا ومتزايدا حتى الآن و يتجلي ذلك في انتشار الإسلام خارج المناطق التي وصلتها الفتوحات الإسلامية. حيث يوجد حاليا ملايين المسلمين في إفريقيا وآسيا الوسطى، و في الباكستان، والهند، وأندونيسيا. 

وفي الختام نشير إلى أن هؤلاء الكتاب الذين اعتمدنا على مراجعهم في تحرير هذا المقال يجمعون على أن محمد ( صلع)  يعتبر من بين الأشخاص الذين أثروا في التاريخ والذين لولاهم ما حدث ما حدث. كما أنهم يتفقون على أن نجاح محمد ( صلع) يرجع إلى الجمع المنقطع النظير بين التأثير الديني والتأثير الدنيوي.حيث أنه استطاع أن يجمع في شخصه بين القائد الديني والقائد السياسي والقائد العسكري.