النبوءة التي تحقق ذاتها في مجال القيادة

لا شك أن أسلوب القيادة ينبني على فرضيات القائد عن أتباعه وأن هذه الفرضيات هي التي تحدد توقعاته من أتباعه. وقد ذكر بول هيرسي أن العديد من الدراسات قد أثبتت أن توقعات القائد من الأتباع وطريقة معاملته لهم تلعب دورا كبيرا في تحديد أدائهم وتطورهم  وهو ما يعرف في العلوم السلوكية بالنبوءة التي تحقق ذاتها[1].فما هو تعريف النبوءة التي تحقق ذاتها؟ وما هي المفاهيم المرتبطة بها؟ وكيف تتحقق؟ وما هي المجالات التي تطبق فيها؟

 

تعريف مصطلح النبوءة التي تحقق ذاتها

نشير في البداية إلى أن مصطلح النبوءة التي تحقق ذاتها هي ترجمة لما يعرف في اللغة الانجليزية  Self-fulfilling prophecy  وهي كما عرفها ميرطون ( (1948 “تعريف خاطئ مسبق لموقف ما، ولكن هذا التعريف الخاطئ يؤدي إلى سلوك جديد يجعله حقيقية” ومثال ذلك أن يتخيل أصحاب الأسهم ان سوق البورصة سينهار فيبادرون إلى بيع أسهمهم وهذا يؤدي إلى انهيار البورصة فعلا. وقد وضع مورطون هذا المفهوم ليفسر كيف أن اعتقادا آو توقعا ، سواء كان صحيحا آو غير صحيح، يؤثر في نتائج موقف معين أوفي الطريقة التي سيتصرف بها شخص أو جماعة.وبتعبير بسيط فالنبوءة التي تحقق ذاتها هي تصرف شخص طبقا لتوقعات شخص آخر.

 

ويجب أن نشير إلى أن عددا من النظريات تندرج تحت مفهوم النبوءة التي تحقق ذاتها وتعتبر شكلا من أشكالها، ومنها على الخصوص: اثر بيجمايون، اثر كالاتيا واثر كولم فما المقصود بكل مفهوم من هذه المفاهيم الثلاثة؟

 

اثر بيجمايون Pygmalion: يعني أن ما يتوقعه القائد من أتباعه يؤثر بقوة في أداء الأتباع وفي تطورهم. وفي المقابل فإن الأتباع يميلون إلى فعل ما يعتقدون أنه متوقع منهم. فإذا اعتقد القائد أن أتباعه سينجحون فمن المحتمل جدا أن ينجحوا.وهنا نلاحظ ان النبوءة الايجابية التي تحقق ذاتها تستعمل كمرادفة لأثر بيجمايون. “وترجع جذورأثر بيجمايون إلى الأسطورة التي تقول إن ملك قبرص والنحات المسمى Pygmalion   نحث صنما لامرأة سماها Galatea وبما أن المرأة كانت جميلة فإن النحات وقع في حبها فتوسل إلى الإله Aphrodite   بأن يبعث فيها الحياة فتحولت Galatea إلى امرأة حقيقية وبالتالي أصبح حلم Pygmalion حقيقة”[2].

أما اثر كالاتيا Galatea : فيقصد به أن التوقعات الذاتية المرتفعة للشخص، تزيد من أدائه.فمثلا إذا آمن (توقع) الشخص أنه سينجح فإنه غالبا ما ينجح. فعندما يرفع الشخص من توقعاته الذاتية فإنه غالبا ما يحسن أداءه.

اثر كولم Golem: هو ظاهرة سيكولوجية تفيد بأن التوقعات المنخفضة التي توجه إلى الأشخاص ، سواء من طرف آخرين أو منهم ذاتيا، تؤدي إلى  انخفاض أداء الشخص.وهكذا نلاحظ أن اثر كولم هو نقيض لاثر بيجمايون. 

 

بعد هذا التوضيح المبسط لمجموعة من المفاهيم نتساءل عن كيفية حدوث النبوءة التي تحقق ذاتها وهل توجد خطوات محددة لذلك؟

خطوات النبوءة التي تحقق ذاتها[3]

من خلال البحث الذي قمنا به (على الانترنيت) حول أدبيات النبوءة التي تحقق ذاتها وجدنا عددا من الدراسات والمقالات ومنها مقال في الموسوعة الدولية الذي يوضح خطوات النبوءة التي تحقق ذاتها والتي حصرها في ثلاث خطوات وهي التالية: 

الخطوة الأولي: يجب أن يحمل شخص اعتقادا خاطئا حول شخص آخر.مثلا مدرس  يعتقد أن تلميذا له قدرة أكثر من تلك التي يتوفر عليها التلميذ في الواقع.

الخطوة الثانية: الشخص الذي يحمل ذلك الاعتقاد الخاطئ يجب ان يعامل الشخص الآخر بشكل منسجم مع ذلك الاعتقاد. فالمدرس الذي يبالغ في تقدير قدرات التلميذ يجب ان يعامل ذلك التلميذ كما لو كانت له قدرات فكرية عالية. فغالبا ما يسأل التلميذ، ويقضي وقتا إضافيا معه،ويزوده بتغذية مرتدة حول أدائه (روزنتال 1973).

الخطوة الثالثة: يجب على الشخص موضوع الاعتقاد الخاطئ أن يستجيب للمعاملة التي تلقاها كي يؤكد الاعتقاد الخاطئ أصلا. فالتلميذ الذي تمت معاملته على ان له قدرات عالية يجب أن يحب المدرسة وبالتالي يقضي بها وقتا أكثر ويبذل جهدا اكبر في انجاز العمل المدرسي مقارنة مع ما يقوم به باقي التلاميذ. وفي المقابل فإن ذلك التلميذ يمكن  في النهاية أن يتعلم أكثر من باقي التلاميذ في الفصل الدراسي، وبذلك يؤكد الاعتقاد الخاطئ  أصلا  للمدرس الذي يري أن التلميذ كانت له قدرات عالية.

 

بعد هذا التعريف المختصر للنبوءة التي تحقق ذاتها والمفاهيم المندرجة تحتها سنري كيفية تطبيقها في مجال القيادة لكن بعد اخذ فكرة تمهيدية عن تطبيقها في مجال التعليم بحكم أنه هو المجال الذي طبقت فيه.

النبوءة التي تحقق ذاتها في التعليم

اول دراسة حول هذا الأثر تمت في مجال التعليم حيث قام كل من روزنتال وجاكوبسن (1968) بدراسة تجريبية بشأن تأثير توقعات المدرسين على تلاميذهم وفي تقرير هما عن الدراسة والذي كان يحمل عنوان بيجماليون في الفصل الدراسي Pygmalion in the Classroom أوضحا أن المدرسين ربما بعثوا رسائل عن النجاح والفشل المتوقع إلى التلاميذ  بشكل فردي. وان التلاميذ استجابوا  بأن كانوا في مستوى توقعات المعلمين. بمعنى ان كل معلم  حمل نبوءة ، او توقعا ، لكل تلميذ وكل تلميذ تصرف لتحقيق  ذلك التوقع. وهكذا أوضحا روزنتال وجاكوبسن من خلال دراستهما التجريبية أن توقعات المدرس بشأن القدرات الفكرية للتلاميذ يمكن ان تستعمل كنبوءة تربوية تحقق ذاتها وأطلقا على هذه الظاهرة اثر بيجماليون وذلك بالرجوع إلى الأسطورة اليونانية التي سبقت الإشارة اليها.

 وفي هذا السياق نجد  روبر زايس [4]1978  يؤكد في كتابه عن المنهاج أن هذه الدراسة تكتسي “أهمية كبيرة في نظرية وتطبيق المنهاج لأنها تتعلق بتأثيرات النبوءة التي تحقيق ذاتها على الذكاء والتعلم  ” فالمدرس عندما يسلم بافتراضات عن طلبته، فإنهم يميلون إلى السلوك الذي يتماشى مع هذه الافتراضات؛ وبتعبير آخر فإنهم يحققون نبوءة الأستاذ عنهم. فالطلبة الذين يعاملون على أنهم مثيرين للقلاقل والمشاكل يقومون بذلك فعلاً، أما الطلبة الذين ينظر إليهم على أنهم مسؤولون وقادرون وناضجون فإنهم غالباً ما يعملون على تحقيق ما يتنبأ به الأستاذ عنهم”[5].  

النبوءة التي تحقق ذاتها  مجال القيادة

ظهرت النبوءة التي تحقق ذاتها في الأبحاث الحديثة، وهي ، كما سبق القول  تعني أن ما يتوقعه القادة من أتباعهم يؤثر بقوة في أداء الأتباع وفي تطورهم. وفي المقابل فإن الأتباع يميلون إلى فعل ما يعتقدون أنه متوقع منهم. 

وقد أوضح دوف إدان Eden الأستاذ بجامعة تل أبيب في الدراسة التي قام بها على الجيش الإسرائيلي (1992) أن أثر بيجماليون يوجد في جميع أنواع مجموعات العمل، وفي جميع القطاعات والصناعات. فإذا كانت للقائد توقعات إيجابية عن أداء الذين يعملون معه (الذين يقودهم) حيث انه يعتقد أنهم يستطيعون حل مشكل صعب فإن أدائهم سيعرف تحسنا.ومن جهة أخري إذا كان القائد يحمل توقعات سلبية عن العاملين معه ، من مثل أن الجماعة ستفشل، فإن ذلك سيؤدي إلى تراجع الأداء الأتباع. وهكذا يري إدان Eden  أن قيادة بيجاليون هي مقاربة يمكن أن يتبناها القائد ليقود أتباعه نحو التفوق. ذلك أن القائد الذي يثق في أتباعه يضع لهم أهداف صعبة ويرفع توقعاتهم بشأن تحقيقها. 

وفي سنة (1969)  قام  ليفنكستون  Livingston بدراسة  أثر بيجماليون  في الإدارة وأكد أن عددا من الحالات الدراسية والتجارب  أظهرت ما يلي[6]:

  1. “ما يتوقعه المديرون من المرؤوسين والطريقة التي يعاملوهم بها تحدد بشكل كبير أداءهم وتقدمهم المهني.”
  2. “من الصفات الأساسية للمدير الأعلى هي القدرة على تكوين توقعات أداء عالية يحققها المرؤوس.”
  3. “المدير الأقل فعالية يفشل في تكوين مثل هذه التوقعات، وكنتيجة لذلك تتدهور إنتاجية المرؤوس.”
  4. “المرؤوس ، في غالب الأحيان، يفعل ما يعتقد انه متوقع منه أن يفعله.”

وبعد ليفنكستون Livingston  توالت الأبحاث التي تدرس أثر بيجماليون في منظمات الأعمال والمؤسسات العسكرية. وقد قام كيرين وكولد Kierein and Gold (2000) وماك نات McNatt (2000) بدراسة واسعة للدراسات التي تمت في مجال الإدارة، ووجدا أن اثر بيجماليون كان قويا. ومن الدراسات الموجودة أمكن صاحب المقال أن يلخص الطريقة التي يحدث بها أثر بيجماليون كالتالي[7]:

  1. التوقعات العالية للقائد تؤثر على موقفه من المرؤوسين.
  2. ومثل هذا الموقف للقائد تكون له أثار إيجابية على التوقعات الذاتية للمرؤوس.
  3. تحسن التوقع الذاتي للمرؤوس يحسن بالتالي أداءه(اثر كالاتيا).

وإذا سلمنا بأهمية تأثير التوقع على سلوك الآخرين فما هي مظاهر النبوءة التي تحقق ذاتها في عملية القيادة؟ تتجلي النبوءة التي تحقق ذاتها في القيادة في عدد من السلوكات التي يقوم بها القائد من مثل:

– التشجيع والدعم والتعزيز المستمر للتوقعات العالية للأتباع،

– خلق بيئة داعمة بين القائد وأتباعه وذلك بسلوكات منها مثلا:النظر إلى الأتباع،وتحريك الرأس للاستحسان والتأكيد، والابتسام، ودفء الصوت، وتوفير مزيد من التغذية المرتدة، فالقائد يمكنه أن يستغل عدة فرص للتعليق على أداء الأتباع سواء كمدح أو كتأديب. حيث إن التغذية المرتدة الإيجابية تحافظ على الأداء الجيد للعمل وتعززه، بينما التغذية المرتدة السلبية تساعد على تحسين الأداء.كما أن التكوين والتدريب يساعدان على تطوير العاملين ويدفعهم إلى مستويات عالية من الأداء.[8] 

خلق اثر بيجماليون في مكان العمل[9]

يقترح بعض الدارسين أتباع مجموعة من الخطوات لإبداء توقعات عالية من الأتباع ولتحفيزهم على رفع أدائهم  وأهم تلك الخطوات هي التالية:

تنحية التوقعات السلبية للأداء

ينبغي للقائد ان يتجرد من كل ما يحمله من الصور النمطية سواء كانت ثقافية ، أو شخصية، أو متعلقة بالنوع الاجتماعي. فمن المهم بالنسبة للقائد أن يبدأ بفرضية أن الناس يستطيعون ،تقريبا ،ان يفعلوا كل شيء  بفضل القيادة الجيدة والدعم. وهذا يذكرنا بنظرية Y التي وضعها ماكريغور سنة 1960 والتي تقوم على افتراضات ايجابية عن طبيعة الإنسان.[10] 

إعطاء الفرصة لكل شخص

يجب على القائد ان يعطي الفرصة لكل تابع ليقوم بالتغيير ويحدد هدفه ويفهم مسؤولياته، ويعرف الأداء المتوقع منه. فالقائد يمكنه أن يكافئ التابع بتوفير فرص إضافية في شكل مشاريع، مساهمات ، مبادرات، ومسؤوليات وذلك عندما يظهر  قدرته على النمو والتطور. فإظهار القائد الثقة أو عدم الثقة التي يعبر عنها لكل تابع  يؤثر على ثقة التابع في نفسه وعلى مستوى النجاح الذي سيحققه. 

وضع توقعات عالية

على القائد أن يحدد للعاملين معه أهدافا صعبة لأن ذلك يشجعهم على التفكير بشكل مختلف ويرفع من مستوى أدائهم. 

إبداء توقعات صحيحة

إبداء القائد لتوقعات خاطئة، قد يكون له أثر سلبي على الأتباع، وعليه ينبغي للقائد  القيام بتحليل دقيق  للموقف قبل أن يتوقع من العاملين معه تحقيق أشياء يعتقدون أنها مستحيلة.

إعطاء تغذية مرتدة

لا شك أن كل شخص يحتاج إلى تغذية مرتدة صريحة. فالأشخاص الذين يقومون بعمل جيد يحتاجون إلى التقدير والاعتراف ، والأشخاص الذين يكون مستوى أدائهم منخفض تشجعهم التغذية المرتدة  السلبية البناءة  على تحسين أدائهم حيث إنها تظهر اهتمام القائد بهم وإيمانه بقدرتهم على رفع مستواهم.

 

وخلاصة القول أن النبوءة التي تحقق ذاتها تعتبر أداة مهمة لتحفيز الأتباع أو المرؤوسين وتشجيعهم  على الرفع من أدائهم وتطويره حتى يكون في مستوى ما يتوقعه القائد منهم. وهي تعبر عن علاقة سببية بين التوقع والنتيجة المحصل عليها فكلما كان التوقع مرتفعا كلما كان الأداء عاليا. وهنا لا نتحدث عن التوقع المنخفض والأداء المنخفض لأن القائد يجب أن يكون توقعه من أتباعه دائما مرتفعا.

[1] حليمة الغراري 2006: القيادة نظرياتها وتطبيقاتها –نموذج التدريس.  مطبعة النجاح . الدار البيضاء

[2] Bass  Bernard,1990 . Bass& Stogdill’s Hand Book of Leadership.New York

[3] International encyclopedia of the social sciences 2end edition

[4]  Robert Zais  1976 . Curriculum :Principales and Foundations.Harper&Row,New York

[5]  الغراري حليمة 2006: القيادة نظرياتها وتطبيقاتها –نموذج التدريس.  مطبعة النجاح . الدار البيضاء

[6] http://econpapers.repec.org/paper/kguwpaper/35.htm

[7] http://econpapers.repec.org/paper/kguwpaper/35.htm

[8] Razik Taher 1995.FundamentalConcepts of Educational Leadership and Management.New Jerey

[9] http://www.changefactory.com.au/our-thinking/articles/managing-performance-pygmalion-effect-leadership

[10]  انطر حليمة الغراري 2006  ص. 194