الرؤية الواضحة أساس القيادة الناجحة

Vision and leadership

تعتبر الرؤية من الدعائم الضرورية لنجاح القيادة بصفة عامة والقيادة التحويلية بصفة خاصة وذلك منذ الثمانينات من القرن العشرين. ففي خضم التغيرات الشاملة و المتسارعة التي أصبح العالم يعرفها في جميع الميادين سواء منها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، ومع تزايد تعقيد الأمور وتشابكها، و تزايد الفراغ  في القيم الروحية والأخلاقية ومع ضياع المعنى وتزايد القلق والخوف من الآتي أصبح الأمل معلقا على القادة لتقديم رؤية جديدة تنير الطريق وتعطي معنى للحياة. وفي هذا الصدد يلاحظ، ضمن أدبيات القيادة، وجود اعتراف واضح بالارتباط بين القيادة والرؤية. فالدكتورجون كوطر يصف القادة الناجحين بأنهم القادة الذين يتميزون بالقدرة على توصيل رؤيتهم Kotter and Heskett (1992:146)، أما وارن بنيس  فيؤكد على إحدى الحقائق الهامة وهي: ” أن المشاكل الحالية لا يمكن حلها بدون منظمات ناجحة، إلا أن المنظمات لن تكون ناجحة بدون قيادة فعالة. فالمقاولة التي تفتقر إلى رؤوس الأموال يمكنها أن تلجأ إلى الاقتراض، والتي لا تتوفر على مكان ملائم يمكنها أن ترحل إلى مكان آخر. لكن المنظمة التي تنقصها القيادة لا يمكنها أن تظل قائمة.” فالقيادة هي التي تعطي للمنظمات رؤيتها، وتستطيع ترجمة تلك الرؤية إلى واقع.(Bennis, 1985, p.19 ).  ويري أن المشكلة في عدد من المنظمات هي المبالغة في  التدبير والنقص  في قيادة

ونظرا للأهمية التي أصبحت لمفهوم الرؤية ولدورها الأساسي في نجاح القيادة سنحاول في هذا المقال أن نجيب، باختصار وتركيز، على مجموعة من الأسئلة التي قد تتبادر إلى الذهن عند التفكير في الرؤية: ما هي الرؤية؟ ما هي مكوناتها؟ ما هي الخصائص المميزة لها؟ ما هي أهميتها بالنسبة للمؤسسة؟ وما هي مصادرها؟  

أولا: تعريف الرؤية

تعرف الرؤية في أدبيات القيادة بأنها صورة ذهنية عن مستقبل مرغوب فيه وممكن   فالرؤية تعطي صورة ، عن المستقبل ، قابلة للتحقيق والتصديق وجذابة، أي أنها تصف وضعا أحسن مما هو موجود. “فهي تشير دائما إلى وضعية لا توجد في الحاضر ولم توجد من قبل، فهي تشكل قنطرة لمرور المؤسسة من الحاضر إلى المستقبل.”[1] وبالإضافة إلى كون الرؤية تتجه نحو المستقبل فهي تحتوى على مجموعة من القيم والمبادئ التي توجه السلوك، كما أنها  تحمل معها التفاؤل والأمل وتساعد الناس على التفكير في أنفسهم وفي المستقبل بشكل مختلف. وباختصار فالرؤية “هي صورة للمستقبل المرغوب فيه بالنسبة للمؤسسة،وهي التي توجه  الاستراتيجيات، والقرارات والسلوك. وهي تجمع بين الممكن والقابل للتحقيق وتحدد الأهداف التي يجب تحقيقها وتوجه تطور المؤسسة” ( BASS ,1990 ,p. 214)

 ويعرف وارن بنيس في (كتاب القادة) الرؤية  بأنها:” صورة ذهنية عن مستقبل ممكن ومرغوب فيه بالنسبة للمؤسسة. ويري أن المهم في الرؤية  هي أنها تقدم صورة، عن مستقبل المؤسسة، قابلة للتحقيق والتصديق وجذابة، وتصف وضعا أحسن مما هو قائم فعلا في المؤسسة” والرؤية تشير دائما إلى حالة مستقبلية، لا توجد في الحاضر ولم توجد في الماضي. (Leaders, 1985, p.82)

الرؤية هي رحلة فكرية من المعروف إلى المجهول، تخلق المستقبل من تركيب (مونتاج) الحقائق الجارية، الآمال، الأحلام، والمخاطر، والفرص (Hikman,1984 )

الرؤية هي القوة التي تعطي المعني للناس في المنظمة (Manasse,1986).

الرؤية هي علامة تشير إلى الطريق لكل من يريد أن يعرف ما هي المنظمة وأين تنوي أن تذهب” (Nanus ,1992) .

الرؤية هي  بناء ذهني، متجه نحو هدف، يوجه سلوك الناس (Seeley, 1992 ).

نلاحظ من مختلف التعاريف المقدمة أعلاه أن الجميع يتفق على أن الرؤية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية مشتركة وهي أنها :صورة ذهنية،  تتوجه نحو المستقبل ،  وتحدد الاتجاه.

  وتجب الإشارة إلى أن الرؤية تختلف عن تحقيق هدف مثل؛ الحصول على نسبة فائدة أو أن تصبح الشركة الرقم الأول في السوق، أو الحصول على اعتراف شخصي. وعلى العكس من ذلك فإن رؤية المستقبل تتحدث إلى كل من القلب والعقل. كما أن الرؤية تختلف عن الرسالة والهدف في كونها تتضمن القيم والمبادئ العامة التي توجه السلوك. فهي تعطي الإحساس بالاتجاه ، وتساعد على معرفة ما يحمله المستقبل. كما أن الرؤية المستقبلية تعطي نظرة عن الأشياء الممكنة وليس فقط الأشياء المحتملة. فالرؤية أعمق من الرسالة أو الهدف؛ لأنها تحمل التفاؤل والأمل وتساعد الناس على التفكير في أنفسهم وفي المستقبل بشكل مختلف. ( David Whetten,2005, p.504)

ونختلف الرؤية المستقبلية عن الأهداف المنطقية أو المقاربات التقليدية لوضع الأهداف. فالرؤية المستقبلية هي صورة شاملة عن كيف ستكون المنظمة عند نقطة زمنية مستقبلية. إلا أن الرؤية ليست مجرد صورة للمستقبل المنشود بل إنها القوة التي تعطى المعنى للناس وللمؤسسات ومن تم تشجع الناس، ليس فقط، على العمل بل على بذل قصارى جهودهم من أجل تحقيقها والالتزام بها وتبنيها. فمما تتكون الرؤية؟

ثانيا: مكونات الرؤية

تتكون الرؤية من عناصر منطقية وأخرى عاطفية. فالجانب المنطقي للرؤية يتعلق بالأنشطة المعرفية العقلية والتحليل المنطقي. أما الجانب العاطفي فيتعلق بالمعرفة غير العقلية مثل الحدس والإبداع والانفعال والتخيل. وهكذا فرؤية القائد يجب أن تشتمل على أهداف معقولة، وغايات وخطة عمل (مكونات الجزء الأيسر من الدماغ) وكذا على الاستعارة ولغة متنوعة والتخيل(مكونات الجزء الأيمن من الدماغ).

ويمكن تسهيل بلورة الجانب المنطقي للرؤية بالإجابة على مجموعة من الأسئلة المحددة للوقوف على  أهم جوانب قوة المؤسسة، ومعرفة المشاكل والعراقيل الكبرى التي تواجهها المؤسسة، وما هو المطلوب عمله قصد الاستجابة لتوقعات الآخرين. أما الجانب غير المنطقي للرؤية  فيمكن بلورته من خلال الإجابة على أسئلة من قبيل ما هو أحسن ما يمكن الوصول إليه؟ ما هي الحكايات والأحداث التي يمكن ذكرها على أساس أنها تميز ما نصبو إليه؟ ما هي الاستعارات والتشبيهات التي يمكن استعمالها لتحديد مستقبل المؤسسة؟ ما هي اللغة الجذابة والإيحائية التي يمكن أن تترجم ما نومن به؟  

ثالثا: مميزات الرؤية الفعالة

تتميز الرؤية الفعالة بمجموعة من الخصائص لخصها الدكتور جون كوطر[2]  في ست خصائص وهي: القابلية للتصور (Imaginable) أي أنها تحمل صورة عن ما سيكون عليه المستقبل، ومرغوب فيها (Desirable) تروق الاهتمامات البعيدة لكل الذين لهم علاقة بالمؤسسة، وممكنة (Feasible) تشتمل على أهداف واقعية وممكنة التحقيق، ومركزة ( Focused ) أي واضحة بما فيه الكفاية لتوجيه اتخاذ القرارات، ومرنة (Flexible ) بما فيه كفاية لتسمح بالمبادرة الفردية وبأجوبة بديلة في ضوء الظروف المتغيرة، وقابلة للتبليغ (Communicable)  بحيث تكون سهلة يمكن تبليغها، وشرحها في مدة وجيزة.     

رابعا:أهمية الرؤية بالنسبة للقيادة

يصرح وارن بنيس بأن “جميع القادة لديهم القدرة على خلق رؤية قوية مؤثرة، رؤية تأخذ الموظفين إلى مكان جديد ومن تم تحويل هذه الرؤية إلى واقع.” وغالبا ما تصف الأدبيات الحديثة للقيادة، القائد بأنه حامل رؤية، صاحب حلم، أو الشخص الذي له رؤية لهدف المؤسسة. وقد كتب بنيس قائلا بأن القادة ” يديرون الحلم” و يسمي هذا النوع من القيادة بالقيادة التبصرية ، كما ذكر عددا من الأسباب التي تبرهن على أهمية الرؤية بالنسبة للمنظمات ومنها :

 أولا: الرؤية تساعد الأفراد على إيجاد أدوارهم في كل من المنظمة التي يعملون بها وفي المجتمع الأوسع الذين هم جزء منه.  فهم يشعرون بالأهمية  عندما ينتقلون من مجرد آلات (روبوط) تتبع بشكل أعمى التعليمات إلى كائنات إنسانية منخرطة في مغامرة خلاقة وهادفة.  وعندما يشعر الناس بأنهم يستطيعون صنع التميز وأنهم يستطيعون تحسين المجتمع الذي يعيشون فيه بمشاركتهم في المؤسسة، فإنهم يقومون بمهامهم بنشاط وحماس وفي مقابل ذلك يتم تعزيز نتائج عملهم. وتحت هذه الظروف تتجه الطاقات الإنسانية للمؤسسة نحو غاية مشتركة، وتتوفر الظروف الأساسية القبلية للنجاح.

ثانيا :الرؤية تساعد الأفراد على التمييز بين ما هو صالح وما هو غير صالح للمؤسسة، وماذا يريدون تحقيقه.

ثالثا: الرؤية تساعد الناس على اتخاذ قرارات صعبة، دون الرجوع باستمرار إلى المستويات العليا في المؤسسة، لأنهم يعرفون النتائج النهائية المرغوب الوصول إليها. وهكذا فالرؤية المستقبلية المشتركة تشكل سلوك الأفراد وتوجهه وتنسقه.

رابعا: الرؤية مهمة في التمييز بين القائد والمدير. فبتركيز القائد اهتمامه على الرؤية، فإنه يشتغل على الموارد العاطفية والروحية للمؤسسة، على قيمها، والتزامها، وتطلعاتها. وعلى العكس من ذلك فإن المدير يشتغل على الموارد المادية للمؤسسة؛ رأسمالها، المهارات الإنسانية، المواد الخام، والتكنولوجية.  

     أما أهمية الرؤية بالنسبة للقيادة  فتتضح عند  الدكتور جون كوطر من  ربطه بين الرؤية وإحداث التغيير، فهو يري أن الرؤية الجيدة تخدم ثلاثة أغراض أساسية. أولا؛ توضيح الاتجاه العام للتغيير، ثانيا؛ تحفيز الناس على العمل في الاتجاه الصحيح، ثالثا؛ تساعد على ربط الأفراد ببعضهم البعض، وتنسق أعمالهم – حني لو كانوا الآلاف- بشكل سريع وفعال. وإذا سلمنا بأهمية الرؤية بالنسبة للقيادة فما هي مصادر تكوين الرؤية المستقبلية؟ وما هي أبعادها؟

خامسا: مصادر الرؤية وأبعادها

حدد وارن بنيس ثلاثة مصادر يجب الرجوع إليها لتكوين رؤية مستقبلية مناسبة للمؤسسة وهي: ماضي المؤسسة، وحاضرها،  ومستقبلها.

الماضي: الرجوع إلى التجربة الماضية الخاصة للمدير ولمديرين آخرين في مؤسسات أخرى لتحديد الإجراءات التي يمكن تطبيقها في المؤسسة،  ومعرفة تاريخ المؤسسة من أجل فهم كيف وصلت إلى الوضعية التي توجد وتحديد العوامل التي ساهمت في نجاحاتها وإخفاقها.  و موازاة مع ذلك يكون القائد نموذجا ذهنيا عن ما كان صالحا وما كان غير صالح لهذه المؤسسة ولغيرها من المؤسسات الشبيهة. كما يجمع أفكارا عن كيفية ارتباط أداء المؤسسة بالمؤشرات الخارجية. 

الحاضر: فالحاضر يعطي نظرة تقريبية عن المصادر البشرية والتنظيمية والمادية التي سيتشكل منها المستقبل. ودراسة هذه المصادر تساعد على فهم الضغوطات والفرص لاستعمالها وظروف نموها، تراجعها، تفاعلها.

المستقبل: ينبغي دراسة الظروف التي يمكن أن تسود في المستقبل.  

إلا أن تكوين اتجاه جديد للمؤسسة يعتبر مهمة معقدة نظرا لتعدد أبعاد الرؤية التي يجب توفرها. فالقائد  يحتاج إلى: بعد النظر foresight  حني يمكنه أن  يقدر  كيف تتناسب الرؤية مع الشكل الذي قد تتطور به بيئة المنظمة، وفهم الماضي hindsight  حني لا تنتهك  الرؤية تقاليد المنظمة وثقافتها، والنظرة  إلى العالم   world view تفسر من خلالها تأثير التطورات والتوجهات الجديدة الممكنة، وإدراك عميق depth perception حتى يمكنه رؤية كل الصورة في تفاصيلها الدقيقة، ورؤية هامشية peripheral vision ، حتى يمكنه فهم الاستجابة الممكنة للمنافسين وأصحاب المصالح الآخرين للرؤية، وعملية المراجعة   process of  revision حتى يمكنه القيام بمراجعة مستمرة  لجميع الرؤى السابقة كلما تغيرت البيئة أو المنظمة (Bennis & Nanus, 1985 , p. 94).

[1] Beyond Leadership, Visionary leadership, by W. bennis, 1996 , p. 49
[2]  J.Kotter , Leading Change, 1996, p.72